قال المعماري الكبير الراحل حسن فتحي: حين قمت بزيارة أسوان وقري النوبة وجدت أن أهل النوبة هم الورثة الشرعيون لأسلوب الأجداد في المعمار، فقد وجدت عمارة للفقراء تتميز بالجمال وبرخص التكلفة وتتناسب مع البيئة المصرية.
لذلك قرر حفظ أساليبها ومميزاتها فى كتابه عمارةالفقراء، التي اكتشفها فى رحلة بحث وتأمل لتجارب العمارة النابعة من بيئتهاعبر تاريخ الإنسانية، من حيث ملاءمة موادها المحلية وتعايشها مع العصر في الوقت ذاته، وإتاحتها وسيلة لائقة لحياة كريمة مهما بدت بسيطة.
وحرص حسن فتحي على إستبعاد الخرسانات من أبنيته، لكن مشكلة صعبة واجهته في تسقيف البيوت بدون شدَّات خشبية، فقد تهدمت بين يديه خلال محاولاته المتكررة، إلي أن ساقته الصدفة لزيارة أسوان حيث دعاه شقيقه الذي كان يعمل مديرا لأعمال خزان أسوان إلى زيارته.
وهناك زار قري النوبة في غرب أسوان، فحدث مالم يكن يتوقعه، حيث صادف حلمه، ووجد حل معضلته الأساسية، وقال عن هذا بنفسه: كان ذلك عالما جديدا على قرية بأكملها من بيوت رحبة جميلة نظيفة ومتجانسة كل بيت فيها أجمل من الثانى ليس هناك فى مصر أى مما يشبه ذلك، إنها قرية من بلد الأحلام.
والتقي حسن فتحي شيخ البنائين النوبيين بغدادى أحمد على، الذى كوَّن له مجموعة من بُناة القِباب النوبيين ليحلوا له مشكلة تسقيف أبنية الطوب اللبن، وتلك كانت بداية مشروع حسن فتحي الذي إحتفي به العالم.
وسعي حسن فتحى لتعميم الفكرة فى ريف مصر، وتجسد حلمه عمليا فى قرية القُرنة وهو مشروع تمت مقاومته ومحاربته لأنه كان مخالفا لمنطق المقاولات والأرباح، ومناهج البناء الغربي، والتي تساندها شبكة قوية تراكمت عبر عقود من مهندسي المقاولات، وكبار الرأسماليين خاصة أن بناء المساكن يلتهم ثلث أموال التنمية حول العالم.
البيوت النوبية كانت نموذجا لعمارة الفقراء التي تُعيد البصمة المصرية القديمة فى البناء والعمارة، حيث يحقق الطوب اللبن والأقبية وفتحات التهوية وظائفها المهمة بطرق البناء الملائمة للريف في شتي أنحاء مصر، وأقلها تكلفة.
وعن بداية عمله فى القُرنة يسجل حسن فتحى فى كتابه عمارة الفقراء: أرسلت خطابا لصديقي القديم بغدادى أحمد على أطلب منه أن يجمع فريقنا من البنائين، وهم أولئك الرجال الذين كنت أذهب معهم من قرية إلى أخرى كفرقة من منشدى التروبادور المتجولين لنبنى العزب والإستراحات لكبار الملاك الزراعيين.
والحقيقة أن إكتشاف حسن فتحي لبيوت النوبة الطينية المسقوفة بالقباب في بداية الأربعينيات لم يكن غير إعادة بعث لفن مصري قديم، حمته قري النوبة وسواعد بنائيها من الفناء، ودفعه إحساسه بالمسئولية تجاه وطنه، لتبني إحياء هذه الطرز من العمارة الشعبية المصرية، حيث وجدها حلا مثاليا لمشكلة كانت وما زالت شديدة ومستعصية وهي توفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري، بتكلفة منخفضة، وتحقق للفلاح بيتا واسعا ومريحا وجميلا في الوقت نفسه، فالفلاح المصري الفقير آنذاك كان يمكنه توفير الطين من البيئة المحيطة ليبني به جدران بيته، لكن مشكلة تسقيف بيته دائما كانت تعوقه، فهو لا يستطيع شراء الأخشاب مثل الأغنياء لتكلفتها العالية، لذا كان الفلاح يسقف بيته بحزم البوص -الغاب، وهو في النهاية لا يعتبر سقفا، لسهولة تأثره بالعوامل البيئية، خاصة المطر، والرياح، والحرائق.
وكان أسلوب القباب قد إنتهي منذ عصور سابقة وإختفي من واقع الريف، وبالضرورة لا يوجد من يمتلكون مهارات بنائها، وظلَّت هذه الطريقة لقرون طويلة قاصرة على قري النوبة تقريبا لتحفظها من الإندثار.
البناءون النوبيون ظلوا يتوارثون هذا الفن من دون أن يدركوا أنهم يحفظون معلما حضاريا مصريا قديما، وإمتلكوا مواهب فطرية ومهارات في البناء، وأيضا جماليات ما بعد البناء مثل الرسوم على الواجهات وجدران البيوت من الداخل.
لذا تمتع البيت النوبي القديم بمميزات متعددة بجانب تكلفته المنخفضة، أولها ملاءمته للبيئة، وتهيئته مناخيا لتلطيف جو المنزل الداخلي، بضبط التصميم مع إتجاهات الريح وحركة الشمس والظلال، فالبيت النوبي لا يعتمد على الشبابيك بل إلى طاقات صغيرة أعلي الجدران يتم غلقها شتاء، والإستغناء عن الشبابيك كان لتفادي رياح الشتاء الباردة، ويرجعه البعض للخوف من عين الحسود، وإتقاء خطر الضواري، لكن الهدف الوظيفي كان المرجح معماريا، فإنغلاق حوائط المنزل الخارجية يمنح الهواء فرصة أكبر في الإتجاه إلى فنائه الداخلي في القلب منه، فيندفع عبره إلي جميع الحجرات من أبوابها المفتوحة علي الفناء ليخرج من الحجرات عبر الفتحات الصغيرة -الطاقات- فيتم تجديد الهواء، وتبريده بطرد الهواء الساخن الملامس لسقف الحجرة من الفتحات، ومضاعفة كميات الهواء البارد الأقرب إلي أرضية الحجرة، فيفعل فعل التكييف بهواء طبيعي متجدد، كما تترك بعض المثلثات المقلوبة المزينة فى جدار المضيفة ليتسلل منها النور كما يظهر إلى الآن فى بيوت غرب أسوان وغرب سهيل، هذا بالإضافة لوقاية أصحاب البيت من الأتربة والرياح، وإستمتاعهم بخصوصية تتوافق مع القيم الإجتماعية.
وينقسم البيت النوبي من الداخل عادة إلى مدخل وفناء أي الحوش السماوي، وهو قلب البيت، ويمكن أن يضم صالة مغطاة في جانب منها تستخدم للنوم في ليالي الصيف، وغرف النوم أو القباوي أي الحجرات المغطاة بالقباب، ثم المطبخ أو الديوكة، والمرحاض، والمزيرة أي المكان الذي توضع فيه أزيار المياه، والمخزن.
وتتميز البيوت النوبية أيضا بـ العقود البرميلية، وهي تقام من طمي النيل وتعود إلي قدماء المصريين، وإنتشرت في أنحاء النوبة في العهود المسيحية وإستخدمت في تسقيف الكنائس والمنازل والمقابر فى أثناء حكم المرويين، وبعد الغزو العربي إختفت العقود البرميلية المستوية من معظم القري ماعدا المنطقة من دراو إلي وادي العرب شمال الشلال الأول وجنوبه، حيث إستقرت قبائل الكنوز، ومع بناء خزان أسوان أجبروا على ترك قراهم وبناء أخري جديدة علي سهول عالية، ورجع البناؤون النوبيون إلي طريقة العقد البرميلية القديمة وبناء الحجرات بقوالب اللبن المصنوعة من طمي النيل المجفف بالشمس.
ومن جماليات العمارة النوبية كذلك تزيين البيوت من الداخل ورسم أشكال وصور على الحوائط الداخلية نابعة من البيئة، فعلى الحائط الذى يوضع أسفله الزير يرسم منظر عام للنيل والنساء يملأن منه الجرار، وفى حوش البيوت يُرسم منظر لفرح نوبى أو رقصة أراجيد.
والعجيب أنه تم رفض مشروع حسن فتحي الذي تقدم به لبناء قرى للنوبيين المهجرين الذين غرقت قراهم بعد بناء السد العالي بالمواصفات المعمارية السابقة، بينما أقامت لهم الدولة بيوتًا إسمنتية خانقة، تتحول في الصيف إلي أفران.
والأمل أن يتم الإهتمام بعمارة وتصميم منازل النوبة بالطريقة القديمة فى مشروع إعادة التوطين الذى أعلن عنه فى الدستور.
الكاتب: شريف عبد المجيد.
المصدر: جريدة الأهرام اليومي.